برز مفهوم الشرعية الثورية في الأيام الأولى للثورات العربية كتعبير عن إرادة شعبية موحّدة أو شبة موحّدة لأسقاط الأنظمة القائمة، بما فيها دساتير تلك الأنظمة وأي قانون يعترض طريق الثورة. والغريب في الأمر هو أنه رغم القبول العام لهذا المبدأ في فترة بداية الثورة، فقد دخل إلى حيّز النسيان بعد مراحلها الأولى، وتم استبداله بالآليات القانونيّة المعتادة، كالإعلان الدستوري ونظام القضاء كما كان وما زال موجوداً منذ زمن ما قبل الثورة. وإذا نظرنا إلى مصر مثلاً، نرى كيف أن غياب مفهوم الشرعية الثورية عن مشهد المرحلة الإنتقالية، وغياب آليات متفق عليها لوضعه حيّز التنفيذ، هو ما أدّى إلى حالة التخبّط الحالية، وعزز من قدرة السلطات الغير ثورية للتحكّم بالمشهد. فلو كانت الشرعية الثورية هي الفصل الحكم للمرحلة الانتقالية، لما كان بوسع المجلس العسكري أن يصدر اعلاناً دستورياً مكملاً ينتقص فيه من صلاحيات السلطات المنتخبة، وما كان بامكان المحكمة الدستورية العليا أن تحل برلماناً منتخباً بأوسع مشاركة شعبية في تاريخ مصر، و تُحدث بذلك القرار فراغاً هائلاً في مرحلة شديدة الحرج من عمرالثورة.
ربما يعود السبب في هذه الحالة إلى عدم وضوح مفهوم شرعية الثورة، بالإضافة إلى سهولة العودة إلى الآليات القضائية الموجودة. فقد أدى هذا الواقع إلى عدم البحث عن والأتفاق على آليات لتطبيق مفهوم شرعية الثورة. الآن يبدو البحث عن تلك الآليات ضرورياً حتى نهاية المرحلة الانتقالية. وفيما يلي أود أن أقترح بعض أساسيات هذا المفهوم، وكذلك بعض آلياته التنفيذية الممكنة:
1. ليس هناك ثورة في التاريخ تطيع الدستور. الثورات تكون دائماً وأبداً غير دستورية ومخالفة للقانون. ومفهوم الشرعية الثورية يأتي بالتحديد من صلب هذه الحقيقة: الثورة تستمد شرعيتها من نفسها وليس من أي قانون وضعي. الثورة هي حالة فوق دستورية وفوق قانونية ولا تخضع لأحكام القضاء.
2. دستور النظام البائد يسقط تلقائياً، "دون الحاجة إلى أي إجراء آخر"، عندما تفرض الثورة نفسها ويقوم حولها إجماع شعبي أو شبه إجماع. (وهذا ما حصل فعلاً في مصر بعد تنحي مبارك، إذ وافق الجميع حينئذ، بما فيهم المجلس العسكري، أن الدستور المعمول به لم يعد موجوداً). الدستور القديم يسقط ليس من خلال آليات يحددها هو، ولكن من فعل يأتي من خارجه ويلغيه. هذا الفعل هو الثورة.
3. خلال المرحلة الانتقالية يسود مفهوم الشرعية الثورية، بمعنى أن أحكام القضاء أو الاعلانات الدستورية الفوقية تُعتبر غير مُلزمة وغير شرعية إذا تناقضت مع شرعية الثورة.
4. الهدف الأساسي لمفهوم شرعية الثورة هو إنجاح الثورة. وأذا أخذ هذا الهدف بالضرورة منحى هجومياً عندما كانت الثورة في أوج اشتعالها، يصبح هذا الهدف دفاعياً في المرحلة الانتقالية، إذ تتحول معركة الثورة في تلك المرحلة من هدف إسقاط النظام إلى هدف منع بقايا النظام من الالتفاف على الثورة وإعادة انتاج النظام القديم.
5. الشرعية الثورية تستمد صفتها من الإجماع أو شبه الإجماع الشعبي عليها. ولذلك تنتفي صفة الشرعية الثورية عن أي قرار أو مبادرة ينتفى عنهما أو ينفض من حولهما شبه الإجماع.
6. بناء على ما تقدّم، يمكن تصوّرعدة آليات لاستخراج وتطبيق الشرعية الثورية، ولكن يجب للآلية المتّبعة أن تكون مناسبة لظروف اللحظة. على سبيل المثال، يمكن أن يجتمع مجلس الشعب المصري "المُنحل" في أي مكان، ويصدر تعريفاً للشرعية الثورية بأنها تنطبق على أي قرار يتخذه بنسبة عالية من الأصوات (80% مثلاً)، ثم يأخذ قراراً بتلك النسبة، أي باسم الشرعية الثورية، ببطلان حكم المحكمة الدستورية العليا ضده. (واذا أراد يمكن له في نفس الجلسة أن يتخذ قراراً ذا شرعية ثورية مماثلة بنزع كل السلطات من المجلس العسكري الحاكم).
7. يستمد مفهوم الشرعية الثورية قوته من الإجماع ووحدة الإرادة وليس من أي قانون. وهذه وجهة نظر واقعية وليست محض نظرية، إذ أن مسار الثورة في مصر قد أوضح أن القوى الحاكمة للمرحلة الانتقالية، وبالتحديد المجلس العسكري، قد تراجعت وقدمت تنازلات إضافية في كل مواجهة رأت فيها أنها تواجه إرادة مضادة شبة موحّدة وعلى درجة عالية من التصميم.
8. مفهوم الشرعية الثورية هو مفهوم مؤقت واستثنائي، ينتهي بانتهاء الحالة الثورية أو الفترة الانتقالية. وذلك لأن هذا المفهوم يعبّرعن درجة غير عادية واستثنائية من الوحدة الشعبية. "الشعب" في المحصّلة النهائية لا يعيش حالة وحدة دائمة، والوحدة الدائمة لا تهدف إليها في النهاية إلا الأنظمة الفاشية، وهي ضد طبيعة الحياة في أي مجتمع كبير ومتغير. ولذلك فعندما نتحدث عن الشرعية الثورية وشروطها ونحن في خضمّ الثورة، يجب أن نتذكر أن "الشعب" يريد في النهاية حياة طبيعية وليس ثورة دائمة.